وهو يُحاوِرني وأحاوره .. لمحمّد عسيلة من المغرب مع منصور عيوني من تونس
17-08-2019 22:41:24
هو نص يأخذ شكل حوار لكنه يتجاوز القالب التقليدي للحوارات الصحفية، كونه أولا يجري بين مثقفين مغربي وتونسي، وتدور أسئلته حول هموم ثقافية وفكرية يبلورها المحاوِر محمد عيسلة في قالب إشكاليات وتساؤلات ويطرحها على المحاوَر منصور عيوني. ولا تقتصر قيمة هذا النص في المضمون الفكري الثري الذي تحمله الأسئلة والإجابات، بل تتعداه إلى مستوى حوار راقِِ بين مثقفين مغاربيين إختارا لغة راقية للحوار في زمن تعج فيه وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت بألوان من اللغط..بعضها أصاب مناخ وأجواء التواصل بين التونسيين والمغاربة.
وفيما يلي نص الحوار:
محمد عسيلة هو خبير الاندماج الثقافي على مدى 25 سنة زاول فيها التعليم والتكوين و التأطير و التواصل مع المؤسسات التربوية و الاجتماعية الألمانية والجمعيات والمساجد المغربية، راكم عدة تجارب، انخرط بها في المجتمع المدني وهو يحمل هموما عدة أراد من خلالها أن يحقق قفزة نوعية لأفراد الجالية المغربية في ذات المجتمع عسى أن يصلح بها الصور النمطية و السلبية التي يقويها الإعلام و عدم المعرفة بالآخر .
منصور عيوني هو خبير التّجديد في التّنمية، يعمل مستشارا للحكومات والهيئات الدّوليّة، له إسهام في ملفّ السّلم المدنيّ بليبيا، كما يتحوّز على خبرة واسعة في مجال تكنولوجيا المعلومات بتونس وإفريقيا وكندا. يشتغل حاليّا على تجديد الخطاب الدّينيّ من أجل إعادة بناء الثّقة بين جيل عصر المعلومات وانتمائهم العربيّ الإسلاميّ والمقاومة المعرفيّة لتيّارات التّعصّب والإرهاب.
"وهو يحاورني و أحاوره" قبس من حوار يجمع بين الارتسامات و التحليل معتمدين على الأريحية في القول و انسياب الدلالة دون تكلف. "وهو يحاورني و أحاوره" فكرة راودتني أثناء زيارتي لتونس الجميلة و لقائي مع إخوة لنا، يحبون المغرب و يكنون له الاحترام و الحب.
فعلى هامش هذه الزيارة التقيت مع بعضٍ من الاخوة و الأخوات و دار بيننا حديث شيق حول عدة معالم و قضايا تهم الإنسان في كل تجلياته و مجالات تهم الاندماج في ديار الهجرة و التنمية البشرية و العقل العربي و الأوروبي والعولمة والدين والتدين والسياحة والهجرة والصناعة التقليدية التونسية.
من هؤلاء الاخوة الأستاذ الفاضل منصور عيوني والذي يعتبر جذوره و أصوله مغربية من الأقاليم الصحراوية و بالضبط جهة العيون بامتياز.
إنسان فاضل، يحسن الاستماع ويجيد فنون القول و التحليل، أبهرني بأسلوبه ونظرته الثاقبة المستقبلية التي تهم تنمية الانسان لكي يكون فاعلا منتجا و راقيا في أساليب حياته و معاملاته. انجذبت لشخصيته وكان لقاؤنا الأولي لقاء قلوب وليس عقول. وزادت محبتي له عندما لامست فيه الحب الفطري للمغرب حيث يتابع كل المستجدات ببلدنا والاوراش الكبرى التي حققها وطننا تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة نصره الله و أيده.
دار بيننا حديث وأحببنا أن نوثقه ليكون أرضية لنقاش مستفيض قادم بحول الله. وعليه أشكره على استعداده المبدئي كي أكون ضيفا عنده و يكون ضيفا عندي. فأهلا وسهلا بك سيدي منصور الفاضل.
المحور الاول: الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية والاقتصادية أخي منصور لا شك أنها حياة ديناميكية متداخلة. سعدت بزيارتي لتونس الحبيبة وتشرفت بلقائك ومعرفتك والتعرف على العديد من الاخوة. هذه الزيارة تركت في نفسي انطباعات وارتسامات أحببت صديقي وأخي الفاضل فتح كنوزها وتحليل خفاياها وديناميكيتها ولو في سطور. نقاشنا يبقى في إطار حوار لا يدعي لنفسه الموضوعية والشمولية بقدر ما يبقى أرضية لفتح نقاش مستفيض حول ما يتعلق بهذه القضايا التي سنتطرق اليها. فأهلا وسهلا بك.
منصور عيوني:
مرحبا بك أخي وصديقي المغربي سي محمد؛ جئت أهلا وحللت بتونس سهلا.
محمّد عسيلة:
تعرف تونس تحولات اجتماعية تمس المجالات الثقافية والدينية والسياسية ويتحدث التونسيون عن "عهد قبل الثورة" و "عهد بعد الثورة". هلا بيّنت لي التغيرات التي يعنيها التونسيون حينما يتحدثون عن هذا "القبل"وعن "هذا البعد"!
منصور عيوني:
من منظور الزّمن الرّاهن، فإنّ التّغيّر يلمسه التّونسيّون على أكثر من صعيد: انبجاس فيض الحرّية من ظلمة الاستبداد، تشكّل مشهد سياسيّ متقلّب ولكن يتّجه نحو التّوازن بين ثلاثة تيّارات أساسيّة للتّأثير (تيّار الإسلام السّياسيّ الذي تمثله حركة النهضة، التّيّار التّقدّمي بكافة مكوّناته الدستورية واليساريّة والقومية، التّيار العمّالي الذي يمثله اتحاد الشغل وإن لم يكن حزبا سياسيّا)، وتدهور الحالة الاقتصاديّة للبلاد، وتشكّل ما أسمّيه العرض الإرهابيّ تشكّلا واضحا وحدّيّا وخطيرا، وحصول طفرة شبابيّة للعمل المؤسساتي في شكل جمعيات المجتمع المدنيّ (من أجل مراقبة الانتخابات ومراقبة عمل البرلمان وغيرهما).
أمّا من منظور الزّمن الطّويل، فإنّ ما حصل في تونس لم يخرج عن قوانين التّحوّل التي تحكم تاريخ هذا البلد. وهو ما ألمح إليه بن خلدون في مقدّمته في مسار حديثه عن حوض الثّورات في تونس، أي المنطقة نفسها التي اندلعت منها "ثورة الياسمين" (وأنا أتبنّى هذه التّسمية لجماليّتها ولقدرتها الدّلاليّة على التعبير عن خصوصيّات الثّورة التّونسيّة)، والتي تسكنها مكوّنات اجتماعية (عروش كما نسميها في تونس، أي قبائل) تميّزت برفضها للاستبداد وتقف على حدودها مدن ذات ثقل ديمغرافي وسياسيّ، وهي منطقةٌ كلّما "ثارت" ضدّ نظام إلا وآل إلى السّقوط. كما وضّح ابن خلدون السّمة "المخاتلة" للشّخصية التّونسية في علاقتها بالحاكم، ومفادها أنّ التّونسيّ يصبر على الضّيم والاستبداد طويلا حتّى يُتَخيّل لمن يحكمه أنّه شعب خانع. غير أنّ هذا الشّعب يختار لنفسه اللّحظة التّاريخية الملائمة للانقضاض على الاستبداد والإجهاز عليه بأقلّ التّكاليف.
محمد عسيلة:
المجتمع التونسي مجتمع طموح ويتكون من طاقات شابة. ما هي مواطن قوة المجتمع التونسي ومواطن الضعف وكيف يمكن تداركها في نظرك؟
منصور عيوني:
نقطة قوّة الشّعب التّونسيّ هي تلك التي عبّر عنها جلالة الملك الحسن الثّاني رحمة الله: أنّهُ شعب. وقد قال أيضا إنّ التّونسيّ يعتزّ بانتمائه لتونس، وهو يتمثل فكرة الدّولة منذ آلاف السّنين، ويدافع عنها في كلّ الظّروف. ثمّ أضاف حين سأله الصّحفيّ عن الضّعف الذي تمر به تونس آخر سنوات حكم الزّعيم بورقيبة لها واحتمال تعرّضها لاعتداءات بعد أحداث قفصة لسنة 1980، أنّ دولة بمثل هذا الشّعب لا يمكن أن يهزُمها أحد. وأنّك إن أردت هزيمة تونس فلا بدّ من قنبلة نوويّة تأتي على آخر تونسيّ، لأنّه إن قدّر لتونسي واحد أن يعيش، فالشّعب قائم والدولة لم تمت.
أمّا نقطة الضعف فهي ثلاثيّة: آداء سياسي هزيل، جهاز إداري ثقيل، موقع جيوستراتيجي ملتهب.
محمد عسيلة:
احتفل الشعب التونسي مؤخرا بعيد المرأة(13 أغسطس /آب). - كيف ينظر الرجل التونسي إلى المرأة في خضم هذه التحولات والأدوار الطلائعية التي تلعبها المرأة التونسية؟ وهل فعلا حصلت المرأة التونسية في ظل الإصلاحات التي طرأت على مجلة الأحوال الشخصية على حقوق والتي مازالت المرأة العربية في دول أخرى تحلم بها؟ - هل الرجل التونسي (الأب والزوج والأخ) مستاء من هذه الحرية التي أحرزت عليها المرأة التونسية؟ ويتطلع إلى أن تعود المرأة إلى دورها الكلاسيكي في رعاية البيت وتربية الابناء؟
منصور عيوني:
في الواقع، التّجربة التّونسيّة رائدة في هذا المجال، وهو مكسب تاريخيّ لا يمكن الرّجوعُ عنه تحت أيّ عنوان. فالمرأة حاضرة حضورا رئيسيّا في كافّة المجالات الاجتماعية والاقتصاديّة والسّياسيّة، وهي مُواطِنٌ مكتمل الشّروط لا تمييز بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات. والفضل يعود لدولة الاستقلال التي كانت مشبعة بروح تقدّمية عملت بكل جرأة على تحرير المرأة ورفع ما حولها من قيود. كما يعود إلى مفكّرين وقادة مصلحين مثل الطّاهر الحدّاد صاحب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، وهو الذي قوّض الأسس الفكرية والدينية التي رزحت بها المرأة تحت نير التخلّف والاستغلال لقرون طويلة.
هنالك طبعا من هو مستاء من هامش الحرّيّة الذي تتحوّز عليه المرأة التّونسية ويتطلّع إلى أن تعود إلى دورها التّقليديّ في الطّبخ وغسل الأثواب والاعتناء بالأبناء في المنزل. وهو لعمري خطاب ذكوري متخلف من النّاحية الإنسانيّة، ولا أساس له في الدّين مطلقا، ويستبطن فكرة ماكرة مفادها أنّ الرّجال أهل للمسؤوليّة الاجتماعية أكثر من النّساء، وهو ما يعرف تهافته جميع التّونسييّن من الشّمال إلى الجنوب، حيث أنّ المرأة تناضل في الحقول والمصانع، في حين "يُضيّع" كثير من الرجال الوقت هدَرًا على طاولات المقاهي.
ونحن ننظر إلى الحالة التّونسية خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي هذه، وبعد أن احتكر تيار الإسلام السّياسي الحكم في زمن الترويكا (السنوات الثلاث الأولى بعد الثورة)، قالت المرأة التّونسية كلمتها الحاسمة عندما صوّت أكثر من مليون امرأة لمرشح التّيار الوطني التّقدمي رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي في انتخابات سنة 2014.
ونحن نذكر هذا الرّئيس الألمعيّ ونترحّم عليه، فلا بأس من أن نعرّج على موقف ذي دلالة قام به في لقائه بالرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في البيت الأبيض سنة 2015. حيث كان أوباما يشيد بتجربة المرأة التونسية في سياق "نصح" لم يستسغه الرئيس العجوز لدولة عمرها 3000 سنة، فقاطعه وأجاب: "هل تعلم أنّني وصلت إلى الرّئاسة بمليون ونصف صوتا، أكثر من مليون منهم نساء؟"
محمد عسيلة:
من هنا نمر إلى الأسرة التونسية واشكالية التربية والتعليم: أخي التونسي، كيف تقيمون تجربة تونس في التعليم بشكل عام وهل أنتم راضون عن النتائج المحصل عليها في التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي؟ هل هناك تعاون بين الأسرة والمدرسة في إطار ميثاق معلن أم مستتر؟ - البطالة في صفوف الأكاديميين: كيف تقيمونها؟ - هل هناك تطلع من الشباب لهجرة تونس إلى أوروبا وكيف تواجه الدولة هذا النزيف والذي قد يلمس حتى الكفاءات التونسية؟
منصور عيوني:
المنظومة التّعليميّة في تونس قامت بدورها كما ينبغي خلال خمسين سنة من الاستقلال، وقدّمت لتونس خيرة كفاءاتها في جميع المجالات، وقد مثّلت أداة الدّولة في محاربة الفقر وتطوير الوعي الوطنيّ في كافة ربوع البلاد. ولا شكّ أنّ ما أنجبته تونس من مفكّرين كبار لهم صيت عالمي، من عيار هشام جعيط و القائمة طويلة لا يسمح المقام بها، في كافّة مجالات العلوم الإنسانية هو الثّمرة التي جادت بها هذه المنظومة التّاريخيّة على تونس وكافّة بلدان العالم العربيّ.
ولكنّ هذه المنظومة قد ترهّلت وأصبحت في وضع خطير لا أستطيع تشخيصه في سطور. ولكن يكفي أن أقول، إنّ هذا الجهاز التنّمويّ بامتياز قد فقد دوره كمصعد اجتماعي يمكن الفئات الضّعيفة في المجتمع من الارتقاء إلى مراتب أعلى في الإدارة والقطاع الخاصّ من خلال تحصيل العلم. وهو ما يعطّل آلة التنمية ككل. فتونس التي فهمت – من خلال سياسات دولة الاستقلال – أن لا تنمية اقتصادية بدون تنمية الإنسان المعرفيّة والتّربويّة، أصبحت تتخبّط في سياسات تنموية مفروضة من الجهات المانحة تستهدف خصخصة التّعليم وضرب ديناميكية المصعد الاجتماعي في الصّميم.
أمّا هجرة الكفاءات فهي النتيجة المنطقية لتحول المناخ الاقتصادي والسّياسيّ في تونس إلى مناخ محفّز على هذا النّوع من الهجرة بما يطرحه من معوّقات ثقافية ومؤسسية تحول دون إرادة التّميّز والإبداع. وهي لعمري مشكلة من عيار ثقيل لا يمكن حلّها ما لم يقع التّعامل معها من منظور الأمن القومي التونسي في مفهومه الشامل. حيث أنّ تونس في أمس الحاجة إلى كلّ كفاءاتها في هذه الحقبة الحرجة التي تمر بها المنطقة والعالم.
محمد عسيلة:
تونس تعتمد على تونسيي المهجر في اقتصادها وترويج ثقافتها. ونحن، في المغرب، نتحدث عن مغاربة العالم وتدبير ملفاتها، قلتم لي بان المغرب قطع أشواطاً بعيدة في تدبير ملف وقضايا مغاربة العالم؟ أين تجسدون هذه الأشواط وهل يمكن لتونس الاستنارة بتجربة المغرب؟
منصور عيوني:
المغرب يملك رؤية ونحن لا نملك رؤية. "توانسة العالم" إن صح التعبير يتحركون بمفردهم من دون فلسفة جامعة وأهداف مانعة. نحن في تونس بصدد البحث عن معنى لتحركنا، وأنتم وضعتم هذا المعنى في رؤية بعيدة الأمد تدعمها إرادة مَلَكيّة واضحة. أمّا نحن في تونس، فليس لدينا مثل هذه الإرادة. أنتم في المغرب، وقفتم على حساسية المعطى الثقافي الديني ودوره في دمج مغاربة العالم في الحضارة الإنسانية، وفي هذا أنتم تقطعون أشواطا، في حين نهمل هذا الجانب إهمالا تاما في تونس، ونصرف جميع طاقاتنا فيما نسمّيه في الدّاخل بمحاربة الإرهاب، والحال أنّ جميع إرهابييّ تونس ترعرعوا في مساجد الخارج وتدرّبوا على السلاح في معسكرات بالخارج.
ما أتمنّاه هو أن يقع الاقتداء بالتّجربة المغربيّة في هذا المجال بالذّات، ولكننّي لست متفائلا بإمكانيّة تحققّه في الوقت الرّاهن لغياب الوعي السّياسيّ بأهمّيته الحضارية والاقتصاديّة والأمنية.
محمد عسيلة :
أشكرك أستاذي الفاضل على هذا الحوار الجميل والذي يؤرخ لزيارتي الأولى لتونس ولهذه العلاقة الطيبة بيننا كمغاربيين، نحب أوطاننا ونسعى لخدمتها كل من زاويته ومكانته.
وفقكم الله ووفق الله تونس ورجالاتها ونسائها لتكون في مصاف الدول المتقدمة، جالبة الرخاء والنماء لشعبها.