بانوراما



الدكتور محمد تركي: اعتداءات كولونيا تهدم في لحظة ما أنجزته أجيال

03-02-2016 12:31:22

 

المفكر التونسي وأستاذ الفلسفة بعدد من الجامعات الألمانية، الدكتور محمد تركي، أدان بشدة اعتداءات كولونيا ويؤكد أن من أقدموا على هذا الفعل "خدموا أجندات أخرى لم يحسبوا لها حساب ولم يكونوا واعيين بفداحة هذا الفعل".

في مداخلته في احتفالية الذكرى الخامسة للثورة التونسية التي نظمتها هيئات المجتمع المدني التونسية في ولاية شمال الراين فستفاليا RNW بمدينة بون يوم 23 يناير 2016، يقول الدكتور تركي"إننا نسعى جاهدين من أجل تحسين الصورة وبناء جسور مع المجتمع الألماني بهدف الاندماج، ولكن مثل هذه الأحداث تحطم كل ما أنجزناه خلال سنوات في لحظة وهذا يشعرني بالخيبة".

نص مداخلة الدكتور تركي حول دور المجتمع المدني في عملية الانتقال الديمقراطي في تونس

 

كلمة شكر لمنظمي الندوة من أفراد و جمعيات و بالخصوص السيد منصف السليمي الذي أرسل الدعوة.

 

- موضوع اللقاء، ليس الاحتفال بمرور خمس سنوات على ثورة 14 جانفي 2011 لأنّ الأحداث الأخيرة أبرزت أنّ الوضع بالنسبة للجزءالكبير من الشعب التونسي لم يتغيّر بل ازداد تأزما على مستويات عدّة،

 و أنّما هو فرصة لتبادل الآراء و تشخيص الوضع الحالي و البحث عن طرق جادّة للخروج من الأزمة. 

 

- نعلم حقّ العلم أنّ الثورة التونسية حقّقت أهدافا لا يستهان بها، مقارنة بدول ما يسمّى "الربيع العربي" التي دخلت في دوّامة العنف و الحرب و الرجوع إلى حالة ما قبل الثورة. هذه الأهداف التي نفتخر بها هي

* الحرّية، بما في ذلك حرّية الرأي و الضمير و التعبير.

* الكرامة، إذ أعيدت الكرامة للمواطن التونسي الذي لا يخضع حاليا لنزوات السلطة التنفيذية و مؤسساتها

* الديمقراطية التي تتمثل في تكوين الأحزاب، الاقتراع المباشر، الفصل بين السلط ، انتخاب مجلس حرّ للشعب و تقويض نفوذ رئيس الدولة بجعل الحكومة تخضع للمراقبة من قبل البرلمان أو مجلس الشعب.   

 

- غير أنّ العنصر الأساسي الذي طرح نفسه خلال الثورة و ما زال في خظمّ هذه الأحداث هو و لا شكّ: الشغل و بالأخصّ تشغيل الشباب و أصحاب الشهائد. فكلّ الأهداف التي تحقّقت سياسيا تبقى في حقيقة الأمر ناقصة إذا ما لم تتوّج بضمان لقمة العيش و تحقيق المشاريع التي يسعى كلّ مواطن أن يبنيها.

 

-          هنا نقف أمام المعضلة الكبرى التي جرّت عددا من شباب تونس سواء إلى الهجرة أو "الحرقة" أو حتّى الإنضمام إلى جمعيات إرهابية أغرتهم بالمال و الغنيمة حتّى تجاوز عددهم الآلاف، في حين بقي الجزء الأوفر يترقب و يأمل في الحصول على شغل في بلده.

-          غير أنّ الشغل مرتبط ارتباطا وثيقا بالوضع الاقتصادي الذي يشكو هو الآخر تراجعا منذ الثورة. فكيف يمكن لنا إذن تجاوز الأزمتين الاقتصادية وأزمة التشغيل في وقت توقف فيه الإنتاج للمواد الخامّ و ضعف فيه التصدير و تقلّص الاستثمار الخارجي إلى جانب تدهور القطاع السياحي نتيجة الإرهاب في السنوات الماضية؟ هذه المسائل أساسية و لا بدّ من مواجهتها بكلّ موضوعية و بكلّ شجاعة من طرف أصحاب القرار، و لسنا هنا قادرون على حلها و إنّما نسعى إلى تشخيصها فقط

 

  • لكن هناك مجالا آخر يستوقفنا و يمكن لنا المشاركة فيه، ألا و هو دور الجالية التونسية في تعزيزالمسار الديمقراطي في هذه المرحلة الإنتقالية بالذات. و هو الموضوع الذي أودّ أن أتطرّق إليه في هذه الحصّة.

  • قد يغيب على البعض أنّ حضورنا هنا في ألمانيا كجالية تونسية جاء بعض أفرادها منذ أكثر من أربعين سنة و البعض الآخر هو من الجيل الثاني أو حتى الثالث، أنّنا بموجب عيشنا ضمن المجتمع الألماني قد تعلّمنا شيئا ثمينا يتمثل في دور المواطنة الذي يتبنّاه كلّ واحد للتعايش معا. هذا الدور الذي ما زال غائبا بعض الشيء في المجتمع التونسي لعدّة أسباب لا يمكن التعرّض إليها الآن، يفترض منّا أن نضعه نصب أعيننا لأنّه المجال الذي يسمح لنا المشاركة في تفعيله.

  •  فالمواطنة لا تعني أنّنا ننتسب إلى وطن ما، بل أن نتقيّد أيضا بقوانين البلاد و ندافع عنها و أن نشترك ليس فقط في الحقوق، و أنّما أيضا في الواجبات التي من دونها لا يمكن للدولة أن تقوم أو  تتقدّم في مسارها الحضاري.[لقد خاطب جون كينيدي المواطنين في خطابه الأول بعد تقلّده الرئاسة بإلقول: "لا تسأل ماذا تفعل الدولة لك، و إنّما ماذا تفعل أنت للدولة؟". هذا يعني أنّه من الواجب التقيد بالمسؤولية إزاء الوطن. و من بين هذه الواجبات هي المشاركة الفعلية في دعم  نشاط منظمات المجتمع المدني التي تهتمّ بالعديد من المجالات مثل الثقافة و الرياضة و التربية و تشرف على مراقبة العمل السياسي للحكومة و الأحزاب و تشجّب بالخروقات الناتجة عنه.

  • هذه المنظمات هي بمثابة الجسر الرابط بين الجالية و الوطن الأمّ من جهة و بين الجالية و البلد الذي يحتضننا من جهة أخرى. فهي تساهم من خلال عملها في تحسيسنا بالمسؤولية إزاء الوطن من ناحية و المجتمع الذي نعيش فيه من ناحية أخرى، و ذلك من خلال التوعية. [فما حصل في كلونيا ليلة رأس السنة من طرف شباب من شمال إفريقيا هدّم صورة مشرقة عنّا يصعب إزاحتها في السنوات المقبلة رغم ما قامت به بعض الجمعيات من المجتمع المدني لتجاوزها. هذه الصورة البشعة أصبحت وسمة عار بالنسبة لنا و خدمت أجندات

    أخرى لم  يحسب لها مرتكبيها حسابا.]

على المجتمع المدني أن يتبنّى إذن في هذا الإطار حملة توعية ثقافية واسعة تهدف إلى ردّ الإعتبار لنا كجالية أوّلا، أي نحترم في سلوكنا المجتمع الألماني بنسائه و رجاله و نتقيّد بسننه وعاداته. ثم نردّ الإعتبار للمجتمع التونسي الذي يأمل أن تعود السياحة إلى الوطن و تخفّف بذلك من حدّة البطالة و الفاقة لدى المواطنين في تونس. 

 

  • عن طريق هذه المنظمات، وخاصّة الجمعيات ذات الصبغة الإقتصادية، يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورا فعّالا في البحث مع سلط الإشراف عن سبل ناجعة للخروج من أزمة البطالة لدى الشباب العاطل. و هو ما يتطلب تكوين لجان تعمل على درس برامج تنموية بالنسبة للجهات الفقيرة في الشمال الغربي و الوسط و الجنوب مع المستثمرين التابعين للجالية التونسية و الذين يرغبون في الإستثمار في البلاد. فجاليتنا ما زالت في مرحلة ترقب فيما يخصّ المساهمة في مشاريع تنمويّة ضمن الاقتصاد الوطني ما دامت الأوضاع الأمنية لا تسمح بذلك.

لتحقيق هذا الهدف الأخير لا بدّ أن تلتفت سلطة الإشراف إلى الجالية في الخارج و تعير لها اهتماما أكبر، خاصة على الساحة السياسية. فهي في حاجة لها، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، و إنّما أيضا كرصيد معرفي و علمي و سياسي يشعّ عليها من خلال الأجيال القادمة. فالتجارب السياسية لدى البعض من أفراد الجالية قد تساهم هي الأخرى في تحسين مردود عمل المؤسّسات القومية بإدخال بعض الإصلاحات عليها، أي لا بدّ من التفاعل الإيجابي بين سلطة الإشراف و الجالية بجميع مكوّناتها.

ختاما لا ننسى أيضا الدور الذي يمكن أن يقوم به المجتمع المدني من خلال جمعياته في الميدان الثقافي. فهو يبني عن طريق التبادل الثقافي جسرا لتلاقح الثقافات سواء في الفنّ أو الأدب أو السينما و غيرها من الحقول. و يشجع بذلك عملية الخلق و الابتكار لدى الأ جيال الحاضرة و القادمة. إنّ تطوّر المجتمع و تقدّمه لا ينجح، كما قال ابن خلدون، إلاّ بتراكم المعارف و العلوم و ترشيد السيادة.     


Copyright © 2024 MAGDE / All rights reserved.