رحلة الباحث التونسي حسن الطرابلسي من "زمن"ابن رشد إلى "“فلسفة الثورة"عند هيغل
14-11-2018 00:43:44
حسن الطرابلسي* الباحث التونسي بكلية الفلسفة بجامعة ميونيخ، بدأ رحلته البحثية لشهادة الدكتوراه في الفلسفة من اشكالية مفهوم الزمن عند إبن رشد..وقادته رحلة البحث إلى عالم الفيلسوف الألماني هيغل وفلسفة الثورة.
Georg Wilhelm Friedrich Hegel
وفي دراسته لا يقتصر الباحث التونسي على قراءة تحليلية في أفكار غيورغ فيلهم فريدريتش هيغل الذي يعتبر من أهم رموز الفلسفة المثالية بألمانيا، بل ينفذ بقراءته إلى استنتاجات حول صيرورة الصراعات الراهنة عالميا وفي صلبها قضايا العلاقة بين الغرب والإسلام السياسي، وثورات الربيع العربي، ودور المثقفين في العالم العربي.
وفيما يلي نص البحث بقلم حسن الطرابلسي، (وننوه بأن البحث يعتمد على عشرات المصادر والمراجع باللغات الألمانية والفرنسية والعربية، وارتأينا لاعتبارات تقنية صرفة نشرها على الصفحة المقابلة باللغة الألمانية).
هيجل هو من أكثر الفلاسفة غموضًا وتعقيدًا وعسرًا على الفهم، كما قال الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسلi وهو كما قال موريس ميرلو بونتي "هيجل هو أصل كل ما يحدث من أشياء عظيمة في مجال الفلسفة منذ مائة سنة" لذلك يعتبر ذروة الفلسفة المثالية الألمانية التي تضم إلى جانبه كلا من فيختهiiFichte التي تعبر مثاليته مثالية ذاتية، وشيلنجiiiSchellingالذي تعبر مثاليته مثالية موضوعية.
والبحث في فلسفة الثورة مهم لأن الثورة تأسس قواعد جديدة لسلوكنا وتصرفاتنا وتمنحنا الفرصة لرؤية أفضل للحق (القانون) والقوة (السلطة) والجمال (الإسطيتيقا أو الفنّ) والله (الميتافيزيقا أو الدين)iv وتسمح لنا بالتالي بهدم نظم سياسية وقيمية وقانونية سائدة والتبشير بأخرى بديلة وجديدة تعيد تحديد سلوكنا بشكل مغاير عمّا ألفناه. فالثورة بهذا المعنى عملية هدم وبناء، يتبعه تحليل وتفسير وقراءة وفهم، وهي عقلنة وتنوير جديد يشمل مجالات الحياة كلها.
فكيف لنا إذا أن نتحدث عن فلسفة للثورة عند هيجل؟ وما هي معالمها؟ ثم ماذا بقي من فلسفة الثورة الهيجلية بعد نقد كل من فيورباخ (Ludwig Feuerbach) وكير كجارد (Søren Kierkegaard)وخاصة ماركس؟ وما هي راهنية هيجل في الجدل الدائر اليوم عربيا ودوليا؟
ولذلك فإن بحثنا عن فلسفة للثورة عند هيجل سوف يقودنا إلى البحث في فلسفة السياسة والقانون والدين والمجتمع وسنجد أننا أمام مصدرين أساسيين لذلك هما حياة هيجل نفسها ولحظته التاريخية التي ميزتها ثورتان أساسيتان وهما الثورة الصناعية وخاصة الثورة الفرنسية في أبعادها ورسائلها المتعددة. ثم ثانيا في كتاباته سواء منها تلك التي كتبها أيام شبابه وهو يتنقل بين ألمانيا وسويسرا أو في سنوات النضج والشهرة وإنتشار الصيت في جامعة برلين.
وبالتالي ففلسفة الثورة منتشرة في حياة ومؤلفات هيجل وما علينا إلا البحث عنها وإظهارها للوجود.
وبناء على ما تقدم فإن التعريف بحياة هيجل وأهم مؤلفاته يصبح إذا جزءا من هذا العمل سنصل معه إلى بعض النتائج والإستخلاصات.
I ـ هيجل: حياته وأعماله
حياته
جورج فلهلم فردريك هيجل، ولد في شتوتجارت بألمانيا عام 1770م، درس في معهد توبنجن الديني وتخرج منه سنة 1793 وهذا المستوى يؤهله ليكون قسيسا ولكنه لم يشتغل قسّا بل مدرسا خصوصيا في بازل Basel وبرن Bern وفرانكفورت (1793ـ1799). ولعل أهم كتابات هذه المرحلة كتابه عن التمييز بين فلسفة كل من فيخته وشيلنج Differenz des Fichteschen und Schellingschen System der Philosophie.
بعد وفاة والده سنة 1799 ووراثته لمبلغ تمكن به هيجل من الدراسة في الجامعة وتخرج من جامعة ييناv Jenna سنة 1801. وفي سنة 1802 أسس مع صديقه شلينج "الجريدة النقدية الفلسفية" Kritische Journal der Philosophie وعيّن سنة 1805 أستاذا في جامعة يينا. ولكن سرعان ما سقطت يينا في يد نابليون سنة 1806. وقد ختمت هذه المرحلة بأهم كتب هيجل "ظاهريات الروح" الذي فرّ به كمخطوط لم يطبع بعد من يينا ليلة واحدة قبل سقوطها في يد نابليون.
بسقوط يينا اضطر هيجل لمغادرتها ومر بفترة قاسية في حياته فاشتغل بالصحافة ثم عيّن مديرا لمعهد ثانوي في نورنبرغ Nürnberg وهناك تزوج سنة 1811 وأصدر بعد سنة كتابه الشهير عن علم المنطق Wissenschaft der Logik في ثلاثة أجزاء. وبهذا الكتاب لفت أنظار العالم الأكاديمي إليه فتحقق سنة 1816 حلم كبير لهيجل وأصبح أستاذا بجامعة هايدلبرج. هنا أصدر سنة 1817 كتابه "موسوعة العلوم الفلسفية" Enzyklopädie der Philosophischen Wissenschaften، ولم يلبث هناك طويلا حتى دعي إلى برلين سنة 1818 ليكون خلفا لفيخته الذي توفي قبل أربع سنوات.
في برلين نال هيجل شهرة كبيرة وأصبح أستاذا للأساتذة Professor der Professoren كما ما يحلو لبعض دارسي الفلسفة الألمان أن يسموه. وفي برلين كتب سنة 1821 مؤلفه عن "فلسفة القانون" Grundlinien der Philosophie des Rechtes oder Naturrecht und Staatswissenschaft im Grundriss
سمح هذا الوضع المريح لهيجل بالسفر والتنقل فسافر إلى بريكسل وهولندا وبراغ وفينا. ثم سنة 1827 سافر إلى باريس والتقى في طريق العودة بغوته Goethe. والتقى سنة 1829 بصديق الشباب شيلنغ، الذي كان في خلاف معه، ولكن محاولة الإصلح بينهما فشلت.
وفي سنة 1831م، انتشرت الكوليرا في بروسياvi، فكان هيجل من ضحاياها، وتوفي في 14 نوفمبر سنة 1831م.
من أهم الأحداث التي أثرت على حياة وشخصية هيجل الثورة الفرنسية التي اندلعت وعمره تسع عشرة عاما وشخصية نابليون والثورة الصناعية في أنجلترا وعودة الملكية.
تأثر كثيرًا بدراسته للأدب اليوناني والحضارة الأثينية، وبقي التأثير واضحًا عليه حتى النهاية
كما تأثرأيضا بالشاعرهولدرلينvii (Friedrich Hölderlin) أكبر شعراء الحركة الرومانسية، والفيلسوف فريدريك شيلنج، وهو وإن كان يصغر هيجل بخمس سنوات فقد كان مبكر النضوج والعبقرية.
بلغ هيجل مجده في فترة تدريسه ببرلين والسنوات التي تليها، ثم في آخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وانجلترا خاصة كما اشتهر مجددا بعد انهيار الإتحاد السوفياتي في آخر الثمانينات مع فلسفات نهاية التاريخviii.
أهم مؤلفاته:
لم ينشر هيجل نفسه سوى الكتب الأربعة التالية:
-
ظاهريات الروحPhänomenologie des Geistesix, 1806 .
-
علم المنطق.Wissenschaft der Logikx, 1812-16
-
موسوعة العلوم الفلسفية Enzyklopädie der Philosophischen Wissenschaftxi, 1817
-
فلسفة القانون.Grundlinien der Philosophie des Rechtes oder Naturrecht und Staatswissenschaft im Grundrissxii, 1821
ولكن تلامذته وبعض الناشرين تولوا نشرمحاضراته ومقالاته ومراسلاته.
II ـ مختصر فلسفة هيجل:
أ ـ المنطق عند هيجل
لا يقتصر مفهوم المنطق عند هيجل على التعريف الكلاسيكي له الذي كان يكتفي بالبحث عن قواعد وقوانين للتفكير. فأشكال وقوانين التفكير عنده لا تمثل إلا جزء من المنطق وليس المنطق كله، فالمفاهيم، والقواعد المنطقية، والخصائص ليست فقط قوانين تفكير وإنما هي حقيقتها وماهيتها وذلك لأنها لا تحتوي على أسلوب تفكيرنا وإنما تمثل هيكل العالم. وأما عملية التطور فهي تتم بشكل جدلي، إذ أن كل مفهوم يأدي إلى مفهوم أفضل منه.
وهكذا فإننا بتفكيك كل مفهوم نصل إلى مفهوم جديد. فمفهوم الذات Sein مثلا لا يعني شيئا وهو لا يعدو أن يكون مجرد فكرة (eine Gedanke) ولكنها لا تعني شيءً، وبذلك نصل من الذات إلى اللاذات (vom Sein zum Nichtsein) أي نصل من الفكرة إلى نقيضها. وهنا بالضبط يحدث وضع جديد إنه الصيروية Das Werden
يقول هيجل في كتاب موسوعة العلوم الفلسفية: "يعتبر اللاشيء هو الخط الذي لا واسطة فيه، إنه هو ذاته، وهو في نفس الوقت نقيض لذاته. إن حقيقة الذات وكذلك اللاذات هي بالتالي التأليف بينهما، وهذا التأليف هو الصيرورة."xiii وهكذا فإننا بإنتاج الفكرة ونقيضها نصل إلى التطور.
ويمكننا أن نرمز إلى المنطق الهيجلي بالجدول التالي:
عربي |
ألماني |
|
|
الفرضية: |
المطلق هو الذات الخالصة |
Das Absulute ist reines Seins |
|
نقيضها: |
المطلق هو اللاذات |
Das Absulute ist das Nichtssein |
|
Die Vereinigung vom Sein und Nichtsein ist das Werden الجمع أو التأليف بين الذات واللاذات هو الصيرورة |
|
||
النتيجة: |
المطلق هو الصيرورة |
Das Absulute ist das Werden |
ومن هذه الفكرة أو المعادلة تتطور المسارات وتتوسع في شكل سلسلة من المفاهيم المتناقضة لتصل في الختام إلى الروح المطلق Das absulute Geist
ب ـ الديالكتيك
يتأسس الديالكتيك عند هيجل من حركة ضرورية ثلاثية: الفكرة ونقيضها إلى التأليف بينهما، ويشرح لنا هذا الثالوث كالتالي: "إننا في البداية نتناول فكرة ناقصة، فتؤدي متناقضاتها إلى أن يحل محلها نقيضها، غير أن هذا النقيض تظهر فيه العيوب نفسها، فلا يبقى طريق للخلاص سوى أن ندمج بين محاسن التصورين في تصور ثالث، ومع أن هذا العلاج من شأنه أن يحل المشكلات السابقة ويتقدم بنا خطوة نحو "الحقيقة"، إلا أنه بدوره يتكشف عن متناقضات، فينشأ من جديد موضوع ونقيضه، ثم يرتفع هذا التناقض بينهما في تآلف جديد، وهكذا دواليك، حتى نصل إلى مقولة (الفكرة المطلقة)xiv" وهذا يدل على أن تفكيرنا يتطور بشكل جدلي وأن هدف هذا التطور هو الوصول إلى الفكرة المطلقة أو الروح المطلقة.
وبالمثال يتضح الحال فإنّ النبتة تكون في البداية بذرة ثم تتحول إلى زهرة ثم إلى ثمرة وتشكل هذه المراحل الثلاثة من عمر النبتة حقيقتها الكلية. وهي في عملية التحول هذا تمر من مرحلة إلى أخرى وكل مرحلة وإن نفت سابقتها إلى أنها تحفظها بشكل ما. وهذه المراحل الثلاث التي تمر بها النبتة، هي التي تمثل في النهاية حقيقة النبتة. فالبذرة تتم إزاحتها عندما تتحول إلى زهرة، ولم نعد نرى البذرة ولكنه تم الإحتفاظ بها في صورة متقدمة. والزهرة بدورها تتحول إلى ثمرة ناضجة وتلغي الزهرة ولكنه يتم الإحتفاظ بها أيضا في شكل أكثر تطورا.
أو مثل الإنسان فإنه يكون طفلا ثم شابا ثم كهلا، وكل مرحلة ترفع ما سبقها ولكنها في نفس الوقت تحفظها في صورة متطورة. وهذا التحول والإختلاف الظاهري بين المراحل الثلاث هو دينامية التحول والصيرورة.
إنها إذا صيرورة ديناميكية تتطور من مرحلة إلى مرحلة أخرى أعلى منها ولكنها تحتفظ بها بشكل ما. وهذه المراحل الثلاث مجتمعة هي التي تشكل حقيقة النبتة أو الإنسان.
ولوصف هذا المسار فإنه يستعمل فعل aufheben الذي له في اللغة الألمانية ثلاثة معان:
الأول هو معنى "رفع أو أزاح" beseitigen كأن نقول مثلا: أزاح/رفع الحواجز عن الطريق
الثاني هو معنى "حفظ"aufbewahren مثل أن نقول: حفظ الكتاب من التلف
الثالث هو "أعلى أو رفع" hinaufheben/emporheben كأن نقول: أعلت الأم شأن أبنها.xv
ج ـ فلسفة التاريخ
يعتبر هيجل أن "العقل يحكم التاريخ" فالتاريخ يتحرك وفقا لمبادئ العقل ومهما بدت الأحداث متناقضة إلا أنها تمثل في النهاية خطا يسير باتجاه الحرية. وهكذا فإن مهمة التاريخ ليست رواية الأحداث لاستنتاج العبر والحكم، لان التاريخ الكلي الحقيقي هو العقل الذي هو جوهر التاريخ. ويشير هيجل إلى فكرة طريفة في قراءته للتاريخ ويطلق عليها "مكر التاريخ" ويعني بها أن التاريخ قد يستخدم أحيانا بعض الطغاة لتحقيق أهدافه دون أن يشعروا بذلك. وأبرز مثال على ذلك نابليون بونبارت الذي اجتاح أوروبا بجيوشه في عمل مستبد ولكنه في النهاية خدم التاريخ عن طريق نشر مبادئ الثورة الفرنسية الداعية إلى الحرية.
وفي اطار التدليل على سير التاريخ نحو الحرية. يقدم هيجل قراءته لتاريخ البشرية فيميّز بين مراحل تاريخية ثلاث:
أولا: مرحلة العالم الشرقي، يعني به الحضارة الصينية والهندية والفارسية والفرعونية، وفي هذا العالم سادت الحرية للسلطان فقط. فهو الإله وأما بقية الشعب فإنهم عبيد، وبالتالي فهذا الحاكم هو الوحيد الذي يتمتع بالحرية.
ثانيا: مرحلة العالم اليوناني والروماني وفيها اتسع نطاق الحرية نسبيا، ليشمل اليونان والرومان، وأما بقية الأمم كالأفارقة والإسيويين مثلا فإنهم في نظر الرومان برابرة وهمج. وبالنتيجة فإن الحرية يتمتع بها فقط بعض الناس.
ثالثا: مرحلة العالم الجرماني حيث سادت الحرية للجميع. ويخلص بذلك إلى أن الروح الألماني هو روح العالم الجديد. لذلك مجّد هيجل ألمانيا تمجيدا مبالغا فيه واعتبر أن التاريخ وصل في ألمانيا، مع الدولة البروسية، إلى الروح المطلق. وبالتالي فإنه اكتمل. وباكتماله يقف التاريخ وينتهي عن التطور.
وهنا نريد أن نتوقف قصيرا عند هذا التمجيد الهيجلي لألمانيا لنرفع بعض الإلتباس. إن هذه القراءة لمراحل التاريخ وخاصة المرحلة الثالثة جعلت بعض الكتاب يتهمه بأنه من الفلاسفة الذين مهمدوا للنازية. وهي أيضا نفس التهمة الموجه لفيختة ونيتشة، وهذا في اعتقادي مبالغ فيه وغير سليم لأنه يخرج هذه النصوص من سياقاتها التاريخية ويقرأها قراءة خاطئة. أي بروح عصر آخر غير الذي كتبت فيه.
كيف ذلك؟
إن خطابات فيختهxvi وقراءة هيجل للتاريخ كانت في لحظة عصيبة على ألمانيا إذ انها خسرت الحرب ضد نابليون في يينا سنة 1806 ثم سقطت المدن البروسية الواحدة تلو الأخرى في سورة درامية مخجلة حتى وصل نابليون إلى برلين وتجاوزها. فهيجل نفسه قد تم اقتحام بيته وكان يعتقد أن الفرنسيين سيتعاملون معه كمثقف حر ولكنهم لم يفعلوا ذلك ونهب بيته كسائر البيوت وأما فيختة فإنه اضطر بعد عدة تنقلات إلى الفرار خارج المانيا، في هذه الفترة سيطرت روح الهزيمة والخسارة على الألمان. فهيجل وفيخته نفسيهما عاشا صعوبات مالية وشظفا في الحياة بعد أن كانا يدرسان في جامعة يينا.
كان على المثقفين الألمان، إذن، مسؤولية وواجب مهم في إعادة زرع الثقة بين أبناء شعبهم. ومن هنا كانت كتاباتهم تستجيب لمسؤوليتهم كمثقفين واعين بدورهم في زرع الأمل والتفاؤلxvii. ولذلك فإن فلسفة التاريخ عند هيجل هي فلسفة تبشر بالمستقبل، وأما فيخته فإنه خرج مع الجيش عندما بدأت حرب التحرير، وكان يطمح أن يكون خطيبا له، ولكن المنية لم تسعفه فتوفي سنة 1814.
إننا بهذا الإستطرار المختصر والضروري نريد التاكيد على ضرورة فهم فلسفة هيجل في إطارها الزماني والمكاني وفي لحظتها التاريخية وليس من وجهة نظر لحظتنا التاريخية المعاصرة لأننا عندها سنقع في إسقاط تاريخي خطير. "فمهمة الفلسفة عند هيجل هي أن نفهم ما هو موجود لأنّ ما هو موجود هو العقل، إنّ مهمة الفلسفة لتنحصر في تصور ما هو كائن لأنّ ما هو كائن ليس إلاّ العقل نفسه ولو أننا نظرنا إلى المسألة من جهة نظر الفرد لرأينا أنّ كلا منا ابن عصره وربيب زمانه، وبالمثل يمكن أن نقول عن الفلسفة إنّها عصرها ملخصا في الفكر وكما أنّ من الحمق أن نتصور إمكان تخطي الفرد لزمانه فإنّه لمن الحماقة أيضا أن نتصور إمكان تجاوز الفلسفة لزمانها الخاص"xviii
ولو عدنا إلى موضوعنا لرأينا أن التاريخ عند هيجل يسير باتجاه هدف واحد يسميه الروح المطلقة، أي الوعي بالذات وهذا الوعي هو الذي يجعل الإنسان حرا. وهكذا فالتاريخ يسير في اتجاه المزيد من العقلانية، والأخلاق والنظام والحرية.
ومسار التاريخ هذا هو الذي يقود في الأخير إلى تأسيس الدولة التي تحقق السعادة للجميع ففي الدولة تتحقق الحرية وهكذا فإن غاية التاريخ هي الدولة وغاية الدولة هي الحرية. والدولة عنده هي أسمى إنجاز بشري لأنها تحقق التوافق بين النظام الإجتماعي من ناحية والنزوع الطبقي من ناحية أخرى. وهذا ما يسمح لها باستعمال القوةxix.
وفي هذا المستوى يطرح تساؤل مهم وهو ما جدوى العنف والحروب والجرائم البشعة التي تحدث في التاريخ؟
هنا يجب ان نفرق بين التاريخ العميق الذي يكتشفه الفيلسوف ويفهم خيوطه وبين التاريخ الظاهري الذي تتابع فيه الأحداث. إضافة إلى أن العنف والشر ليس هو الأصل عند هيجل وإنما من خلال هذا الشر نفهم الخير ونستطيع البحث عنه والعمل على تحقيقه. وبالتالي فإن الشر ليس إعتباطيا أو هامشيا وإنما هو ضروري في حركة التاريخ عند هيجل. بل إنه ضروري لتقدم حركة التاريخxx.
IIIـ هيجل والثورة
-
الثورة الفرنسية فتح لعصر جديد
عندما قامت الثورة الفرنسية سنة 1789 وكان هيجل في عز شبابه إذ كان عمره تسع عشرة سنة ولقد فرح بها كثيرا واستبشر بها خيرا وخاصة بمبادئها الثلاث (الحرية، الإخاء، المساواة).
ويروى أنه من شدة فرحه ذهب هو وصديقيه هولدرلين وشيلنج إلى مكان ما في حيّهم وزرعوا شجرة سموها شجرة الحرية تيمّنا بالثورة الفرنسية التي كانت الحدث الأكبر الذي هز أروبا في ذلك العصر.
ولا يخفى علينا التأثير الكبير التي تتركه الأخبار الجيدة التي كانت تصلهم من باريس والتي تبشر بعصر جديد، من مثل اقتحام سجن الباستيل وتحرير مساجين الرأي وما تلاه من إعلان حقوق الإنسان والمواطنة، ثم اعدام الملك وغيرها من الأنباء.
ولما وصل نابليون إلى يينا غازيا استبشر به هيجل واستقبله ولم ير فيه مستعمرا بل اعتبره المحرر والبطل الذي يبشر بعصر جديد.
وقد كتب عن هذا الحدث ما يلي:
"إنه في الحقيقة لإحساس رائع، أن يرى المرء مثل هذا الفرد، متمركزا هنا في بقعة بعينها، ممتطيا حصانا بعينه، ومع هذا فهو منتشر ممتد عبر العالم، ومن هذه البقعة يحكمه."xxi
ولم يقتصر التأثير الإيجابي للثورة الفرنسية فقط على هذه العقول الشابة والجبارة الثلاثة وإنما كان على مثقفي العصر آنذاك. فكانط مثلا والذي كان في أوج شهرته، تحدثنا الروايات أنه كان يخرج يوميا لجولته المسائية في نفس الوقت حتى أن البعض كان يضبط ساعته على خروج كانط. ورغم هذه الدقة فإن الروايات تقول أيضا بأنه لم يخرج لجولته يوم سماعه بقيام الثورة الفرنسية لأنه ذهب لتتبع الأخبار القادمة من باريسxxii. وتمتلك الثورة الفرنسية أهميتها عند كانط لأنه رأى فيها "تحقيق حلم التقدم التنويري في ذاته، وههنا لا فاصل بين التنوير والثورة." كما يرى فوكواxxiii في قراءته لكانط من خلال كتابه عن الأنوار.
وقد كان الأصدقاء الثلاثة (هيجل، شيلنخ، وفيخته) من الجيل الذي يلي كانط وكان له عليهم تأثير كبير كل واحد منهم بشكل معين. غير أن هيجل هو أكثر الثلاثة الذين حرصوا على تجاوز كانط في كثير من المقولات.
ومن ثمة فإنهم أيضا رأووا أن الثورة الفرنسية هي إعلان عن نهاية عصور الإقطاعية والإستبداد المسيحي والأخلاق السائدة. وكان هيجل أكثرهم وعيا بهذه اللحظة التي أحدثتها الثورة الفرنسية والثورة الصناعية في انجلترا واعتبرأن التحول الكبير وضع التقاليد الميتافيزيقية موضع التساؤل ونزع عنها الهالة القدسية فاصبحت الفلسفة تبحث عن الله في الطبيعة كما أنّ الآلة فرضت سيطرتها على الإنسان حتى أصبحت "التغيرات في الجنس البشري تتبع التغيرات في الآلة" كما يقول هيجل في فلسفة التاريخ. ولم يعد بإمكان الفلسفة أن تنكر أو تتجاهل هذا الأمر. ومن هنا وجب على الفلسفة أن تطرح السؤال بشجاعة وتجيب عنه بحرية.xxiv
-
فلسفة هيجل هي التعبيرة الفلسفية للثورة الفرنسية