بانوراما



الإصلاح الديني والديمقراطية المسيحية والإسلام السياسي - سجالات، مقارنات، استشراف

27-03-2017 12:51:14

بحلول الذكرى المئوية الخامسة لانطلاق حركة الإصلاح الديني في أوروبا (أكتوبر 1517-أكتوبر 2017)، التي دشّنها اللاهوتي الألماني مارتن لوثر، تحتفي العديد من الأوساط في العالم خلال العام الجاري بهذه الذكرى*، لما منحته من قسمات جلية للحضارة الغربية وما خلّفته من آثار على نطاق عالمي. في وقت تكتسب فيه قضية الإصلاح الديني في العالمين الإسلامي والعربي راهنيةً، لما تواجهه تلك الفضاءات من موجات غير مسبوقة من المشاحنات الطائفية وانتشار العنف والاصطفاف المذهبي وصعود "الإسلام السياسي" بتعبيراته المختلفة. فلا أحد ينكر ما شهده العالمان الإسلامي والعربي بدورهما من تجارب مماثلة لحركات الإحياء الديني والإصلاح، انطلق بعضها منذ أواخر القرن الثامن عشر واستمرت على مدى قرنين أو أكثر (خير الدين التونسي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، شكيب أرسلان، محمد رشيد رضا، إلخ...). قدّمت خلالها تلك التجارب رؤى إصلاحية، دارت على وجه العموم حول مسألة العودة إلى الأصول، مع وصفات متفاوتة من "التكيف" مع عصر الحداثة، ودون أن يرد في أذهان روادها أصلاً إصلاح الإسلام ذاته. في الأثناء، يقتضي الحال ألاّ نغفل عن محاولات تزامنت مع هذه المشاريع، لم تستند إلى مرجعيات دينية، بل نهلت من مشارب خارجية واستلهمت جل أطروحاتها ومطالبها من معين الثقافة الغربية، مع ذلك ظل المنجَز بعد أكثر من قرنين محدودا، بل يذهب البعض إلى تأكيد أننا نشهد حالة من النكوص والتراجع مقارنة بتلك الفترة السالفة، سيما مع تفاقم الاحتراب الطائفي والانطواء الهووي ورواج ثقافة التكفير، إلخ.

ورغم تباين السياقات بين الفضاءين الأوروبي والعربي، فإن قضية الإصلاح الديني لا تزال محلّ مطالب متعاظمة في عالمنا العربي/الإسلامي، رغم أن البعض يدعو إلى مرحلة "ما بعد الإصلاح الديني" لاعتبارات جوهرية، في اعتقادهم، تتعلق بنواة الإسلام الصلبة المستعصية عن "التفتت أو الذوبان". مع ذلك تظلّ استعادة الإصلاحات الدينية التي دشنها لوثر، وما رافقها من تحولات عميقة في اللاهوت المسيحي مفيدة للبعض وملهمة لآخرين، لما مهّدت له من تحجيم سطوة "القانون الكَنَسي" (Droit canonique)، وتمييز بين حقليْ الديني والسياسي في نطاق فك الارتباط بين عالم الدين وعالم الدنيا، ووضعِ حدّ للتوسط والهيمنة والتوظيف، تلك المجالات التي استثمرت فيها كنيسة روما طيلة قرون، ضمنما عُرف في السياق اللاهوتي بحشر السيفين في غمد واحد "Unam sanctum"، الذي يقتضي إذعان السلطة الزمنية لنظيرتها الروحية. فما من أحد يجادل في أن الإصلاحات الدينية المتلخّصة في مقولة "بالإيمان لا غير يحصل الخلاص" (Sola fides)، التي جعلت من صكوك الغفران الرائجة في اقتصاد الغفران عصرئذ وسيلة باطلة وغير مجدية، قد شكّلت "ثورة دينية" حقيقية للخروج من مأزق اللاهوت السكولاستيكي، صاغ عناصرها الراهب مارتن لوثر رفقة رعيل المصلحين الأوائل: توماس مونتسر وهولدريخ زوينكلي وجون كالفن، وإن دبّ بينهم الخلاف.استطاعت تلك الثورة رغم تكاليفها الباهظة ووعورة آلامها (أبرزها حرب الثلاثين سنة 1618/1648م) أن تدرج تلك المجتمعات لاحقا، بأنساق متفاوتة وبإيقاعات مختلفة في عصر الأنوار والحداثة السياسية، وذلك منذ عقد صلح أوغسبورغ بين الأطراف المتنازعة،وهوما تمخض عن قاعدة (cuius regio eius religio)، أي أن كل حاكم يقرّ دين رعاياه بمعزل عما تمليه عليه كنيسة روما.وبالفعل زرعت تلك الثورة المشبعة بالحس الإنسانوي بذور العلمنة والفردانية التي شكلت الأرضية الفكرية والقيمية لعصر الأنوار التي استردت الكائن البشري تدريجيا من خلال تعزيز قيم العقلانية والفردانية وحدّت من سلطة الإكليروس في الأوساط الاجتماعية.

كما مهدت تلك الإصلاحات لنشأة "ايتيقا اجتماعية" تقوم على إجلال كرامة الكائن البشري وترسيخ مبدأي المساواة والمسؤولية والدعوة للتسامح وإقرار حرية المعتقد واحترام حرية الضمير. ولم يكن متعذرا، ضمن هذا المناخ الذي ابتكر بصعوبات متفاوتة شرعيته، أن تنشأ تدريجيا أحزاب الديموقراطية المسيحية، في الأوساط الكاثوليكية والبروتستانتية على حد سواء (في إيطاليا، وفرنسا، وهولندا، وألمانيا، والنمسا، وسويسرا...)، التي انخرطت في زخم أنشطة الجمعيات الخيرية والاجتماعية حتى تصدّرت المشهد السياسي لاحقا وغدت، على أكثر من صعيد، تحدد التوجهات العامة لبلدانها وتشكّل إلى حد بعيد الرأي العام داخل أوطانها الأوروبية.

تحت ضغط المسألة الاجتماعية، وفي سياق ثنائية الاشتراكية/الليبرالية الحادة، كان لعلماء اللاهوت، رفقة جمع من علماء الاجتماع والفلاسفة، دورٌ مهمٌّ في تشكيل نظام ديني وأخلاقي من خلال "تأويلات لاهوتية" مضنية، فضلا عن صياغة مبادئ وأطروحات واتخاذ مبادرات اجتماعية لأجل ترسيخ الاعتراف بالديمقراطية الليبرالية والمطالبة بالإصلاحات الاجتماعية لغرض تحسين أوضاع العمال. كانت توليفة مرهفة من الأفكار الليبرالية والصياغات الأيديولوجية المحافظة والايتيقا المسيحية الاجتماعية، استطاعت أن تنفذ إلى جل مجالات الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية. أما في أرض الإسلام، ورغم عسر المقارنة، فإن محاولات الإصلاح قلّ أن وضعت الإسلام النصي (على وجه الخصوص)، أو سردياته التأسيسية، محلّ تساؤل أو قراءة مستجدة. وظلّت محاولات الاجتهاد وأشكال الاستنباط إما محدودة أو قاصرة عن اقتحام "الحقول المسيجة" وذلك ما فاقم من مصاعب المهمة وفرض حالة من "إصلاحات الأمر الواقع" المستعجلة، تحت ضغط الضرورة، وما جعل جل محاولات التحديث والعصرنة تجري خارج أفق الإصلاحات الدينية العميقة، فلم يعرف الإسلام المعاصر ثورات اجتهاد عظمى كفيلة بتغيير مجرى تاريخه الخاص.

الأمر الذي انعكستآثاره على سائر أحزاب الإسلام السياسي، فبدت في مجملها مفتقرة إلى إرث اجتهادي متين يؤصل مرجعياتها ويشدّها إلى تربة فكرية وحضارية عميقة. ذلك أن سؤال الديني/السياسي قد طُرح في جل محطات التاريخ الحاسمة للحضارة العربية، حسب السياقات التاريخية والجغرافية، وتم صوغه بمفردات ودلالات مختلفة، تراوح فيها النقاش بين النظري والواقعي، كما شهد مخاضات عسيرة جمعت بين المواءمة والمهادنة والصدام، دون الخروج من رهانات السياسة والأيديولوجيا. لذا يحتاج المركب السياسي/الديني إلى انفتاح معرفي في سياق منهج مقارن، وذلك بالاطلاع على التجارب السياسية الغربية ذات الخلفية الدينية (أحزاب الديمقراطية المسيحية) واستدعاء معالجات حضارية وثقافية مغايرة، من أجل إعادة طرح السؤال وصياغته بطرق مستجدة منهجيا ومفاهيميا. تكثفت الأسئلة وازدادت حدة بعد أن أمسكت بعض الأحزاب الإسلامية، عقب الحراك الثوري، بزمام السلطة عبر الانتخابات، على غرار "حركة الإخوان المسلمين" في مصر و"حركة النهضة" في تونس و"حزب العدالة والتنمية" في المغرب و"حزب العدالة والتنمية" التركي وتجارب أحزاب جنوب شرق آسيا. أعادت الأوضاع التساؤل مجددا بشأن الإسلام السياسي ودوره في المشهد العام، وأي علاقة بين الديني والسياسي في ظل التحولات البنيوية التي تعصف بالمنطقة، ولِمَ لاتزال ثنائية الدين والسلطة مصدر قلقٍ في الفكر وتوترٍ في الواقع. هذا وتثير إشكالات الفكر السياسي العربي من ناحية، ومأزق الإسلام السياسي من ناحية أخرى، أسئلةً حارقةً على صلة بالآليات وبأشكال التطور والانتشار في الراهن والمستقبل.

من هنا تبدو الحاجة ماسة إلى مقاربة التطور المقارن لأحزاب الإسلام السياسي في الواقع العربي-الإسلامي وأحزاب الديمقراطية المسيحية في الواقع الغربي، ضمن السياق الفكري والتاريخي، ووضع ذلك على محك الدراسة والبحث مع طرح إشكالية تطوير الفعل السياسي من زاويتين: الأولى تخصّ الإصلاح الديني، والثانية تتابع رصد التطورات الاجتماعية وتغير "الممارسات السياسية للمؤمنين"[1].

يزداد اليوم تطارح قضية "الإصلاح"، مرفوقة على سبيل المقارنة بتجربتين تاريخيتين مهمتين: التجربة المسيحية والتجربة العربية الإسلامية، ومن شأن عقد ندوة علمية في هذا السياق أن يسلّط الضوء في هذه الإشكالية.

لكن ينبغي ألا تُختزل أبعاد الندوة في مجرد عقد مقارنة تاريخية لعملية "الإصلاح" في كلا الديانتين لا غير؛ بل يقتضي الحال القيام بخطوة علمية أبعد غورا تذهب صوب استكشاف تطور هذا "الإصلاح" وتأثيراته على العمل السياسي والاجتماعي في الوقت الحاضر. يتعلق الأمر على وجه التحديد بمعرفة ديناميكية الإصلاح (الديني) في العملية الديمقراطية، وما لها من أثر في ترشيد الأحزاب السياسية المسيحية في أوروبا، وفي ترسيخ مفهوم "الدين المدني" في أمريكا هذا من جهة، وفي ما يتعلق بدور مماثل لدى كوكبة الإصلاحيين في الإسلام من جهة أخرى.

هذه الندوة التي يعتزم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتونس والمؤسسة الألمانية المغاربية للثقافة والإعلام بألمانيا تنظيمها، تهدف إلى استعراض تحديات الإصلاح الديني ورهاناته، وتدارس تجارب أحزاب الديمقراطية المسيحية، بقصد الإحاطة بخصوصياتها وثرائها وأزماتها أيضا. كما تهدف بالمثل إلى تحليل بنيات الإسلام السياسي التي يتغذى منها اللُّبس في الاستخدام السياسي أو "أدلجة الديني" في المجال الثقافي العربي الإسلامي.

ضمن هذا الإطار العام ستطرح الندوة، وبشكل منهجي، المحاور الفكرية التالية:

-          أولا: محور الإصلاح الديني

ما هي مبادئ الإصلاحات الدينية التي عرفتها أوروبا وأي أثر لذلك في مستقبل العلاقة بين مؤسسة الكنيسة والسلطة السياسية؟ إلى أي مدى ساهمت حركة الإصلاح البروتستانتي في تقليص اعتدادالمشروعية الدينية الكاثوليكية المستندة إلى عصمة البابا، ووضع حدّ لاحتكار التأويل الكتابي، وإطلاق عنان تجديد الخطاب الديني، عبر إقرار "لا وسيط للخلاص إلاّ المسيح" و"كلٌّ بنفسه كاهن"، بما ساهم في تحرير الفرد وإطلاق حرية المعتقد والفكر؟ وكيف مهدت تلك الأجواء لنشأة العمل الديمقراطي المسيحي لاحقا؟ وهل لذلك صدى في مشاريع الإصلاح الديني في العالم الإسلامي وهل ثمّة وعي بعمق "الإصلاح" و"الإصلاح المضاد"، البروتستانتي/الكاثوليكي، وأبعادهما في العالم العربي وما للمسيحي العربي من دور في ذلك الجدل؟

ثانيا: محور الديمقراطية المسيحية

ما هي الشروط النظرية والتاريخية والمجتمعية التي أسهمت في بروز أحزاب الديمقراطية المسيحية وفي تشكلها؟ وما هي أسس شرعية الديمقراطية المسيحية (المرجعية، والآداء، والعلاقة بمؤسسة الكنيسة في الراهن...)؟ كيف تفاعلت أحزاب الديمقراطية المسيحية مع المسألة الدينية (فهل هي ذراع علمانية للكنيسة أم هي أحزاب سياسية صرف؟) كيف استطاعت أن تسهم في توطين قيم الديمقراطية والليبرالية وأن تقيم تحالفات مع اليمين واليسار؟ وأي إضافات قدّمتها أحزاب الديمقراطية المسيحية للفكر والمشهد السياسيين وبالمثل أي خيبات وسقطات رافقتها؟ كيف استطاعت هذه الأحزاب ذات الخلفية الدينية أن تجيب عن أسئلة العلمنة وأن تتأقلم مع واقع علماني؟ وهل بوسعها أن تكون مصدر إلهام أو احتذاء للأحزاب الإسلامية؟

ثالثا: محور الإسلام السياسي

هل من سبيل للمقارنة بين أحزاب "الديمقراطية المسيحية" وأحزاب "الإسلام السياسي" (شبكة القيم، الخلفية الدينية، المنظور الإيماني، منهج التحليل والتأويل)؟ ما الذي يحول دون نشأة أحزاب إسلامية ضمن أفق قيم الحداثة السياسية (الدولة المدنية، المواطنة المسؤولة، مراعاة التعددية، حرية الانضمام الطوعي إلى معتقد مّا...)؟وهل يمكن لأحزاب الإسلام السياسي أن تتبنى "علمانية مؤمنة" وأن تنخرط في الفعل السياسي مستندة إلى أرضية دولة المواطنين والديمقراطية؟ ما دواعي "الخشية" من فكرة العلمانية وما مصدر ذلك لدى "الأحزاب الدينية" في العالم العربي؟ ما هي حظوظ انخراط الأحزاب الإسلامية في ديناميكية الإصلاح الديني والتفاعل والاستفادة من علوم التأصيل الإسلامية (السياسة الشرعية، أصول الفقه، مقاصد الشريعة) في سبيل خلق أرضية ثقافية وفكرية تؤسس إلى فكر سياسي جديد يرسم معالم "الخط الفاصل" بين الديني والسياسي؟

 

نص مشترك - المؤسسة المغاربية الألمانية للثقافة والإعلام(بون) والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتونس * 

 

 

 

 


Copyright © 2024 MAGDE / All rights reserved.