بانوراما



التفكير في زمن التحولات الكبرى

16-10-2022 18:40:08

توطئة كتاب "الربيع العربي" والتغيير .. سؤال المستقبل

منصف السليمي

رئيس المؤسسة الألمانية المغاربية للثقافة والإعلام

الإعداد لكتاب"الربيع العربي" والتغيير .. سؤال المستقبل، هذ العمل الفكري المتميز ، قصة تستحق أن تروى، ومن خلالها يمكن تدوين لحظات تاريخية شهدها العالم وعشنا تفاصيلها وتداعياتها في حياتنا اليومية كأفراد وكمجتمعات. بدأنا في سبتمبر أيلول 2020 التحضير لتنظيم تظاهرة فكرية بمناسبة مرور عقد من الزمن على ما يصطلح عليه "الربيع العربي"، واخترنا لها تاريخ 29 مايو/أيار 2021 في برلين، على أمل أن تكون جائحة كورونا قد زالت. ولكن تحت وطأة ما كان يتعرض له الناس في العالم العربي وفي ألمانيا وأوروبا من معاناة جراء الفيروس الذي فتك بحياة مئات الآلاف منهم، وقلّص حركتهم، اضطررنا إلى تنظيم الملتقى بشكل رقمي اختصر مسافات الجغرافيا بيد أنه أظهر قدرات خلاّقة لدى فريقنا خصوصا من الشابات والشبان على استثمار مئات الساعات من العمل الدؤوب لإعداد هذا العمل بأفضل حُلّة.

عندما بدأنا بالتحضير لهذا الملتقى وضعنا نُصب أعيننا أن تكون أعماله متميزة وأن تُنشر عصاراته في كتاب باللغتين العربية والألمانية، وأن لا تكون تكرارا لما تم في عشرات الندوات واللقاءات التي نظمت بمناسبة مرور 10 سنوات على "الربيع العربي".  عقد استثنائي عاشه العالم العربي وكان مليئا بالأحلام التي لخصتها شعارات ثورات الربيع العربي "بالحرية والعدالة والكرامة"، ولكنه في نفس الوقت كان عقدا مثقلا بالخيبات ... ومن ثم فقد تضاربت الآراء والتقييمات في مخرجات تلك الانتفاضات ومآلات الأوضاع ومسارات أزمات متعددة الأبعاد.

لقد كانت رحلة الإعداد لهذا العمل الفكري، في دوامة صعبة، بدءا من جائحة كورونا وتداعياتها، ومرورا بأحداث واضطرابات في عدد من البلدان العربية وأحدثها في تونس مهد "الربيع العربي"، وصولا إلى زلزال حرب أوكرانيا. الأمر الذي زاد في حدّة الأسئلة المطروحة حول المستقبل، لأننا وجدنا أنفسنا في حالة تفكير وتأمل في زمن تحولات كبرى.

لا يتعلق الأمر بمجرد أحداث عابرة، بل تحمل ملامح تحولات تاريخية ومتغيرات في بنيات المجتمعات المعاصرة وثقافاتها. فقد كشفت تداعيات جائحة كورونا وضروب الحروب الجديدة وظواهر مجتمعية مثل الشعبوية والتطرف، آثارا وتشوّهات على أنماط الحياة ونظم الإقتصاد والديمقراطيات العريقة، وها هي تحدث مفاعيلها الأكثر دراماتيكية في الديمقراطيات الناشئة كما تزيد من مأساوية أوضاع بلدان أخرى في حالة حروب وأزمات.

إن التأمل في ظواهر الشعبوية وحركات الثورات المضادة والتطرف بتوجهاته اليمينية واليسارية والدينية والقومية، عملية فكرية تزداد صعوبتها، أولا بفعل تكثّف وسرعة التواصل بين الأفراد والمجموعات والمجتمعات، عبر تكنولوجيا الإعلام والاتصالات الحديثة؛ وثانيا، في ظل الاضطراب الشديد بين اتجاهات عولمة الاقتصاد والعلاقات بين البشر من جهة وبين نزعات الحمائية وصدّ الهجرة من جهة مقابلة؛ وثالثا بفعل تغير المناخ وتأثيراته المتفاقمة في أوضاع العالم ومستقبله.

إننا إزاء متغيرات سريعة الإيقاعات وتظهر تداعياتها في المدى القصير وفي تشكلات وتمظهرات يمكن رصدها في مستوى الدولة والمجتمع الواحد كما في موازين القوى في العلاقات والنظام الدولي.

في هذا الزمن الذي يتسم بسرعة التحولات تزداد حاجتنا كأفراد ومجموعات إلى أن نضاعف من جرعات التأمل والتفكير، كي نتمكن من فهم أفضل لما يجري في كياناتنا وحولنا وبلورة مقاربات أكثر إدراكا لما وراء الظواهر والتغيرات. ومن هنا تكمن أهمية التسلح بأدوات منهجية ناجعة وقيم إنسانية ملهمة في آن.

أولها: التفكير في إطار جماعي، وهو ما نسعى لتحقيقه ضمن مؤسستنا الألمانية المغاربية للثقافة والإعلام وبتعاون وشراكات مع هيئات ثقافية أخرى في ألمانيا وأوروبا وفي المنطقة المغاربية.  ولكننا ندرك في نفس الوقت حيوية وأهمية تشجيع الإبداع لدى الأفراد.

ثانيها: نظرة شمولية تؤلف بين مجالات الدراسة والبحث في الظواهر والتغيرات في نطاقها المحلي ثم الإقليمي وصولا إلى المحيط الأوسع عالميا. ومن هنا فإننا نحاول تقديم عمل فكري متميز حول هذا الموضوع، وعلى مستوى كبير عربي وألماني وأوروبي.

ثالثها: رؤية متعددة الأبعاد من حقول معرفية وتجارب حياتية وأجيال متعددة، وذلك بفضل تركيبة المشاركين من كفاءات علمية وخبرات ميدانية وسياسية وثقافية، وذات آفاق فكرية وخلفيات متنوعة.

رابعها: التركيز على حوافز القيم الإنسانية والكونية التي بها نعطي معنى لحياتنا الفردية والجماعية، قيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان والتسامح والديمقراطية والتضامن والتشارك في جهود ومكاسب التنمية وموارد الطبيعة والحفاظ عليها، التي بفضلها يمكن مكافحة الأنانية والاستغلال والاستبداد والتعصّب.

وفق هذه الرؤية المتعددة المكونات والأبعاد، نحاول في هذا المؤلف الجماعي بلورة أفكار جديدة حول مستقبل التحولاتفي العالم العربي، واتجاهات تطور النخب والمجتمع السياسي، وتأثير الاسلام السياسي، وأيضا حول دور أوروبا والغرب ومسؤولياته إزاء ما جرى ويجري في العالم العربي.

كما يشمل هذا العمل الفكري استشراف مستقبل دور الشباب والمرأة والفئات الإجتماعية التي حملت مشعل الكفاح من أجل العدالة والكرامة ومكافحة الفساد، لكنها ما فتئت تتعرض لضغط كبير خلال عقد "الربيع العربي"، الذي تزامن مع تحولات دراماتيكية في أشكال التواصل وفي الرقمنة ومتغيرات مذهلة في الحياة والمناخ، وصولا إلى مساءلة أوروبا والغرب، حول مآل الدعم الذي تعهدت بتقديمه فهل كان له ثمار في الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية أم أدى وظائف أخرى؟

 

 


Copyright © 2024 MAGDE / All rights reserved.